الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (28): {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)}{مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة} أي الا كخلقها وبعثها في سهولة التأتي بالنسبة إليه عز وجل إذ لا يشغله تعالى شأن عن شأن لأن مناط وجود الكل تعلق إرادته تعالى الواجبة أو قوله جل وعلا: كن مع قدرته سبحانه الذاتية وإمكان المتعلق ولا توقف لذلك على آلة ومباشرة تقتضي التعاقب ليختلف عنده تعالى الواحد والكثير كما يختلف ذلك عند العباد.{إِنَّ الله سَمِيعٌ} يسمع كل مسموع {بَصِيرٌ} يبصر كل مبصر في حالة واحدة لا يشغله إدراك بعضها عن إدراك بعض فكذا الخلق والبعث وحاصله كما أنه تعالى شأنه يبصر واحد يدرك سبحانه المبصرات وبسمع واحد يسمع جل وعلا المسموعات ولا يشغله بعض ذلك عن بعض كذلك فيما يرجع إلى القدرة والفعل فهو استشهاد بما سلموه فشبه المقدورات فيما يراد منها بالمدركات فيما يدرك منها كذا في الكشف. واستشكل كون ذلك مسلمًا بأنه قد كان بعضهم إذا طعنوا في الدين يقول: أسروا قولكم لئلا يسمع اله محمد صلى الله عليه وسلم فنزل: {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [الملك: 13].وأجيب بأنه لا اعتداد ثله من الحماقة بعد ما رد عليهم ما زعموا وأعلموا بما أسروا، وقيل: إن الجملة تعليل لإثبات القدرة الكاملة بالعلم الواسع وأن شيئًا من المقدورات لا يشغله سبحانه عن غيره لعلمه تعالى بتفاصيلها وجزئياتها فيتصرف فيها كما يشاء كما يقال: فلأن يجيد عمل كذا لمعرفته بدقائقه ومتمماته، والمقصود من إبراد الوصفين إثبات الحشر والنشر لأنهما عمدتان فيه ألا ترى كيف عقب ذلك بما يدل على عظيم القدرة وشمول العلم.وأيًا ما كان يندفع توهم أن المناسب لما قبل أن يقال: إن الله قوي قدير أو نحو ذلك دون ما ذكر لأن الخلق والبعث ليسا من المسموعات والمبصرات، وعن مقاتل أن كفار قريش قالوا: إن الله تعالى خلقنا أطوارًا نطفة علقة مضغة لحمًا فكيف يبعثنا خلقًا جديدًا في ساعة واحدة فنزلت وذكر النقاش أنها نزلت في أبي بن خلف. وأبي الأسود ونبيه. ومنبه ابني الحجاج، وذكر في سبب نزولها فيهم نحو ما ذكر، وعلى كون سبب النزول ذلك قيل: المعنى أنه تعالى سميع بقولهم ذلك بصير بما يضمرونه وهو كما ترى..تفسير الآية رقم (29): {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)}{أَلَمْ تَرَ} قيل: خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم وقيل: عام لكل من يصلح للخطاب وهو الأوفق لما سبق وما لحق أي ألم تعلم.{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ اليل فِي النهار وَيُولِجُ اليل} أي يدخل كل واحد منها في الآخر ويضيفه سبحانه إليه فيتفاوت بذلك حاله زيادة ونقصانًا، وعدل عن يولج أحد الملوين في الآخر مع أنه اخصر للدلالة على استقلال كل منهما في الدلالة على كمال القدرة، وقدم الليل على النهار لمناسبته لعالم الإمكان المظلم من حيث إمكانه الذاتي، وفي بعض الآثار كان العالم في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره، وهذا الإيلاج إنما هو في هذا العالم ليس عند ربك صباح ولا مساء، وقدم الشمس على القمر في قوله تعالى: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} مع تقديم الليل الذي فيه سلطان القمر على النهار الذي فيه سلطان الشمس لأنها كالمبدأ للقمر ولأن تسخيرها لغاية عظمها أعظم من تسخير القمر وأيضًا آثار ذلك التسخير أعظم من آثار تسخيره وقال الإمام في تعليل تقديم كل على ما قدم عليه: لأن الأنفس تطلب سبب المقدم أكثر مما تطلب سبب المؤخر وبين ذلك بما بين، ولعل ما ذكرناه أولى لاسيما إذا صح أن نور القمر مستفاد من ضياء الشمس وعطف قوله سبحانه: {سَخَّرَ} على قوله تعالى: {يُولِجُ} والاختلاف بينهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد في كل حين وأما التسخير فأمر لا تعدد فيه ولا تجدد وإنما التعدد والتجدد في آثاره كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {كُلٌّ} أي كل واحد من الشمس والقمر {يَجْرِى} يسير سيرًا سريعًا مستمرًا {إلى أَجَلٍ} أي منتهى للجري {مُّسَمًّى} سماه الله تعالى وقدره لذلك، وهو كما قال الحسن يوم القيامة فإنه لا ينقطع جري النيرين وتبطل حركتهما إلا في ذلك اليوم، والظاهر أن هذا الجري هو هذه الحركة التي يشاهدها كل ذي بصر من أهل المعمورة، وهي عند الفلاسفة بواسطة الفلك الأعظم فإن حركته كذلك وبها حركة سائر الإفلاك وما فيها من الكواكب ويسمى حركة الكل والحركة اليومية والحركة السريعة والحركة الأولى والحركة على خلاف التوالي والحركة الشرقية، وبعضهم يسميها الحركة الغربية، وقيل: ما يعم هذه الحركة وحركتهما الخاصة بهما وهي حركتهما بواسطة فلكيهما على التوالي من المغرب إلى المشرق وهي للقمر أسرع منها للشمس، وليس في العقل الصريح والنقل الصحيح ما يأبى إثبات هاتين الحركتين لكل من النيرين كما لا يخفى على المنصف العارف، ومنتهى هذا الجري العام لهاتين الحركتين يوم القيامة أيضًا، والجملة على تقدير عموم الخطاب اعتراض بين المعطوفين لبيان الواقع بطريق الاستطراد، وعلى تقدير اختصاصه به صلى الله عليه وسلم يجوز أن تكون حالًا من الشمس والقمر فإن جريهما إلى يوم القيامة من جملة ما في حيز رؤيته عليه الصلاة والسلام، وقيل جريهما عبارة عن حركتهما الخاصة بهما والأجل المسمى لجري اللشمس آخر السنة المسماة بالسنة الشمسية الحقيقية وهي زمان مفارقة الشمس أية نقطة تفرض من فلك البروج إلى عودها إليها بحركتها الخاصة، وجعلوا ابتداءها من حين حلول الشمس رأس الحمل ومدتها عند بعض ثلثمائة وخمسة وستون يومًا بليلته وربع يوم كذلك وعند بطليموس ثلثمائة وخمسة وستون يومًا بليلته وخمس ساعات وخمس وخمسون دقيقة واثنتا عشرة ثانية، وعند بعض المتأخرين ثلثمائة وخمسة وستون يوما وخمس ساعات وست وأربعون دقيقة وأربع وعشرون ثانية، وعند الحكيم محيي الدين الكسر الزائد خمس ساعات ودقيقة، وبالرصد الجديد الذي تولاه الطوسي راغة خمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة، ووجد برصد سمرقند أزيد من هذا بربع دقيقة، وأما الاصطلاحية فاعتبرها بعض كالروم والأقدمين من الفرس ثلثمائة وهمسة وستون يومًا بليلته وربع يوم كذلك وأخذ الكسر ربعًا تامًا إلا أن الروح يجعلون ثلاث سنين ثلثمائة وخمسة وستين ويكبسون في الرابعة بيوم والفرس كانوا يكسبون في مائة وعشرين سنة بشهر، واعتبرها بعض آخر كالقبط والمستعملين لتاريخ الفرس من المحدثين وستين يومًا بليلته وأسقط الكسر رأسًا ولجرى القمر آخر الشهر القمري الحقيقي وهو زمان مفارقة القمر أي وضع يعرض له من الشمس إلى عوده إليه، وجعلوا ابتداءه من اجتماع الشمس والقمر وزمان ما بين الاجتماعين المتتاليين {وَأُمِرْتُ لاِنْ} من الأيام ودقائقها ونوانيها تقريبًا وأما الشهر الغير الحقيقي فالمعتبر فيه الهلال ويختلف زمان ما بين الهلالين كما هو معروف.قيل: وعلى هذا فالجملة بيان لحكم تسخيرهما أو تنبيه على كيفية إيلاج أحد الملوين في الآخر، وكون ذلك بحسب اختلاف جريان الشمس على مداراتها اليومية فكلما كان جريانها متوجهًا إلى سمت الرأس تزداد القوس التي فوق الأرض كبرًا فيزداد النهار طولًا بانضمام بعض أجزاء الليل إليه إلى أن يبلغ المدار الذي هو أقرب المدارات إلى سمت الرأس وذلك عند بلوغها إلى رأس السرطان ثم ترجع متوجهة إلى التباعد عن سمت الرأس فلا تزال القسى التي فوق الأرض تزداد صغرًا فيزداد النهار قصرًا بانضمام بعض أجزائه إلى الليل إلى أن يبلغ المدار الذي هو أبعد المدارات اليومية عن سمت الرأس وذلك عند بلوغها رأس الجدى.وأنت تعلم أنه لا مدخل لجريان القمر في الإيلاج فالتعرض له في الآية الكريمة يبعد هذا الوجه، ولعل الأظهر على تقدير جعل جريهما عبارة عن حركتهما الخاصة بهما أن يجعل الأجل المسمى عبارة عن يوم القيامة أو يجعل عبارة عن آخر السنة والشهر المعروفين عند العرب فتأمل، وجرى يتعدى بإلى تارة وباللام أخرى وتعديته بالأول باعتبار كون المجرور غاية وبالثاني باعتبار كونه غرضًا فتكون اللام لام تعليل أو عاقبة وجعلها الزمخشري للاختصاص ولكل وجه، ولم يظهر لي وجه اختصاص هذا المقام بإلى وغيره باللام، وقال النيسابوري: وجه ذلك أن هذه الآية صدرت بالتعجيب فناسب التطويل وهو كما ترى فتدبر، وقوله تعالى: {وَأَنَّ الله بما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عطف على قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله} إلخ داخل معه في حيز الرؤية على تقديري خصوص الخطاب وعمومه فإن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق والتدبير اللائق لا يكاد يغفل عن كون صانعه عز وجل محيطًا بجلائل أعماله ودقائقها وقرأ عياش عن أبي عمرو. {ا يَعْمَلُونَ} بياء الغيبة..تفسير الآية رقم (30): {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)}{ذلك} إشارة إلى ما تضمنته الآيات وأشارت إليه من سعة العلم وكمال القدرة واختصاص الباري تعالى شأنه بها {بِأَنَّ الله هُوَ الحق} أي بسبب أنه سبحانه وحده الثابت المتحقق في ذاته أي الواجب الوجود.{وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} إلهًا {الباطل} المعدوم في حد ذاته وهو الممكن الذي لا يوجد إلا بغيره وهو الواجب تعالى شأنه {وَأَنَّ الله هُوَ العلى} على الأشياء {الكبير} عن أن يكون له سبحانه شريك أو يتصف جل وعلا بنقص لا بشيء أعلى منه تعالى شأنه شأنًا وأكبر سلطاناف، ووجه سببية الأول لما ذكر أن كونه تعالى وحده واجب الوجود في ذاته يستلزم أن يكون هو سبحانه وحده الموجد لسائر المصنوعات البديعة الشأن فيدل على كمال قدرته عز وجل وحده والايجاب قد أبطل في الأصول ومن صدرت عنه جميع هاتيك المصنوعات لابد من أن يكون كامل العلم على ما بين في الكلام، ووجه سببية الثالث لذلك أن كونه تعالى وحده عليًا على جميع الأشياء متسلطًا عليها متنزهًا عن أن يكون له سبحانه شريك أو يتصف بنقص عز وجل يستلزم كونه تعالى وحده واجب الوجود في ذاته وقد سمعت الكلام فيه، وأما وجه سببية كون ما يدعونه من دونه إلهًا باطلًا ممكنًا في ذاته لذلك فهو أن إمكانه على علو شأنه عندهم على ما عداه مما لم يعتقدوا إلهيته يستلزم إمكان غيره مما سوى الله عز وجل لأن ما فيه مما يدل على إمكانه موجود في ذلك حذو القذف بالقذة ومتى كان ما يدعونه إلهًا من دونه تعالى وغيره مما سوى الله سبحانه وتعالى ممكنًا انحصر وجوب الوجود في الله تعالى فيكون جل وعلا وحده واجب الوجود في ذاته وقد علمت إفادته للمطلوب وكأنه إنما قيل أن ما يدعون من دونه الباطل دون أن ما سواه الباطل مثلا نظير قول لبيد:تنصيصًا على فظاعة ما هم عليه واستلزام ذلك إمكان ما سوى الله تعالى من الموجودات من باب أولى بناء على ما يزعم المشركون في آلهتهم من علو الشأن ولم يكتف في بيان السبب بقوله سبحانه: {بِأَنَّ الله هُوَ الحق} بل عطف عليه ما عطف مع أنه مما يعود إليه وتشعر تلك الجملة به إظهارًا لكمال العناية بالمطلوب وا يفيده منطوق المعطوف من بطلان الشريك وكونه تعالى هو العلي الكبير.وقيل: أي ذلك الاتصاف بما تضمنته الآيات من عجائب القدرة والحكمة بسبب أن الله تعالى هو الإله الثابت إلهيته وإن من دونه سبحانه باطل الإلهية وإن الله تعالى هو العلي الشأن الكبير السلطان ومدار أمر السببية على كونه سبحانه هو الثابت الإلهية وبين ذلك الطيبي بأنه قد تقرر أن من كان إلهًا كان قادرًا خالقًا عالمًا إلى غير ذلك من صفات الكمال ثم قال إن قوله تعالى ذلك بأن الله هو الحق كالفذلكة لما تقدم من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ} [لقمان: 13] إلى {هذا} وقوله تعالى: {وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير} كالفذلكة لتلك الفواصل المذكورة هنالك كلها.ولعل ما قدمنا أولى بالاعتبار، وقال العلامة أبو السعود في الاعتراض على ذلك: أنت خبير بأن حقيته تعالى وعوله وكبرياءه وإن كانت صالحة لمناطية ما ذكر من الصفات لكن بطلان إلهية الأصنام لا دخل له في المناطية قطعًا فلا مساغ لنظمه في سلك الأسباب بل هو تعكيس للأمر ضرورة أن الصفات المذكورة هي المقتضية لبطلانها لا أن بطلانها يقتضيها انتهى، وفيه تأمل والعجب منه أنه ذكر مثل ما اعترض عليه في نظير هذه الآية في سورة الحج ولم يتعقبه بشيء.وجوز أن يكون المعنى ذلك أي ما تلى من الآيات الكريمة بسبب بيان أن الله هو الحق إلهيته فقط ولأجله لكونها ناطقة بحقية التوحيد ولأجل بيان بطلان إليهة ما يدعون من دونه لكونها شاهدة شهادة بينة لا ريب فيها ولأجل بيان أنه تعالى هو المرتفع على كل شيء المتسلط عليه فإن ما في تضاعيف تلك الآيات الكريمة مبين لاختصاص العلو والكبرياء به أي بيان وهو وجه لا تكلف فيه سوى اعتبار حذف مضاف كما لا يخفى وكأنه إنما قيل هنا: وأن ما يدعون من دونه الباطل بدون ضمير الفصل، وفي سورة الحج (62) {وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} بتوسيط ضمير الفصل لما أن الحط على المشركين وآلهتهم في هذه السورة دون الحط عليهم في تلك السورة.وقال النيسابوري في ذلك أن آية الحج وقعت بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين فناسب ذلك توسيط الضمير بخلاف ما هنا ويمكن أن يقال تقدم في تلك السورة ذكر الشيطان مرات فلهذا ذكرت تلك المؤكدات بخلاف هذه السورة فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان فيها نحو ذكره هناك، وقرأ نافع. وابن كثير. وابن عامر. وأبو بكر {تَدْعُونَ} بتاء الخطاب.
|